المكافحة الحيوية biological control من علوم البيئة التطبيقية ولاسيما علم بيئة الجماعات، إذ تعتمد على تكوين بيئة خاصة غير ملائمة لانتشار الآفة pest، وذلك باستخدام المواد الحية المتوافرة في بيئة الآفة أو المدخلة إليها لتسهم في خفض أعداد الآفة وأضرارها. وسماها بعضهم بإدارة الآفات pest management لأنها تعدّ أهم جزء من علم المكافحة المتكاملة.
عرّف بلاتشوفسكي Blachowski ت(1951) المكافحة الحيوية بأنها طريقة تستخدم للقضاء على الآفات الزراعية (من فقاريات، وطيور وعناكب وأمراض نباتية)، وذلك بالاستخدام النسبي لأعدائها الطبيعية التابعة للمملكة الحيوانية أو المملكة النباتية.
وقد عرّفتها «المنظمة الدولية للمكافحة الحيوية» International Organization for Biological Control (IOBC) في عام 1971: أنها طريقة تهدف إلى استخدام الكائنات الحية أو منتجاتها للحد من الخسائر أو الأضرار الناتجة من الآفات أو تخفيفها.
أهداف المكافحة الحيوية ومزاياها
تخضع المكافحة الحيوية للقانون الخاص بالتوازن الطبيعي natural balance وتجانسه، ويقصد بالتجانس في التوازن أن الأنواع الداخلة في نظام بيئي معين تحافظ على نسبة الانتشار ذاتها عبر السنين. يتحقق توازن الطبيعة في بقعة ما بتفاعل عوامل المقاومة البيئية المناخية غير الحيوية (مثل الحرارة والرطوبة والضوء والرياح وغيرها)، مع العوامل الحيوية (مثل المفترسات والطفيليات والعوامل الممرضة وغيرها).
تدخل الإنسان في البيئة وطوّرها إيجابياً أو سلبياً، مما أدى إلى توافر اختلال بين العوامل الحيوية وغير الحيوية، ومن ثم إلى نقص أو زيادة في أعداد أحد الكائنات الحية أو إلى اندثار نوع معين أو سيادته، بحيث تم تحوله من كائن حي إلى آفة ضارة بالإنسان. وقد ساعد التقدم في وسائط النقل على انتقال كائنات حيّة بين المناطق المختلفة من العالم، وعلى ظهور آفات جديدة في بلدان كثيرة لم تُعرف فيها من قبل، من دون انتقال أعدائها الطبيعية معها، وكذلك فإن استخدام التكنولوجيا الحديثة في الزراعة بأنواعها كافة واستنباط أصناف جديدة من المحاصيل؛ ساعد على تكاثر الآفات على نحو غير عادي وتحوّل كثير منها إلى آفات اقتصادية.
من جهة أخرى أدى الاستخدام الواسع والمكثَّف للمبيدات بعد الحرب العالمية الثانية، ولا سيما مركبات الكلور العضوية ومركبات الفسفور العضوية إلى إفساد النظام البيئي وحدوث خلل كبير في التوازنات الطبيعية فيه.
كما ظهرت صفة مقاومة الآفات للمبيدات، فتحوَّل عدد كبير من الآفات التي كانت تعد قديماً ثانوية إلى آفات ضارة، إضافة إلى تلوث البيئة واكتشاف ظاهرة الأثر التراكمي السُمِّي للمبيدات ومخاطرها على جميع الكائنات الحية الاخرى وإضرارها بصحة الإنسان والحيوان.
أدرك علماء البيئة الخطر المحدق من استخدام المبيدات ونادوا بالعودة إلى الطبيعة والمحافظة على التوازن البيئي، ومن ثم اهتم المختصون بعلم المكافحة الحيوية التي لاضرر منها للمحاصيل أو الإنسان أو حيواناته، وهي رخيصة الثمن لاتحتاج إلى آلات معقَّدة أو مواد خاصة، وسهلة التطبيق زراعياً ودائمة المفعول لأنها تعتمد على مفاهيم البيئة. ومن أهم مبادئها العمل على تغيير المستوى المتوازن لكثافة أي حشرة لتصبح أقل من المستوى الاقتصادي للضرر.
ومن مزايا المكافحة الحيوية عدم استطاعة الآفة أن تطوِّر مناعتها ضد الأعداء الحيوية، وبإمكان العدو الحيوي البحث عن فصيلة نباتية في الطبيعة وانتشاره وزيادة عدده عليها من دون تدخل الإنسان لأنه متوافر أصلاً في الطبيعة.
العوامل الأساسية للمكافحة الحيوية
تُصنف عوامل المكافحة الحيوية حسب تأثرها بحجم مجتمع الآفة في فئتين:
1ـ العوامل المستقلة عن الكثافة العددية للآفة: وتشمل مجموعة العوامل الحيوية biotic وغير الحيوية abiotic، وهي:
ـ العوامل الطبيعية physical factors: مثل درجة الحرارة والرطوبة والإضاءة والرياح والتربة وغيرها. وهي من أهم عناصر المقاومة الطبيعية وأكثرها فاعلية في تنظيم الكثافة العددية للحشرات، وفي توزيع الحشرات في الطبيعة ونشاطها.
ـ العوامل الحيوية biological factors: تشمل العوامل الحيوية المؤثرة في مجتمع الحشرات مثل نوعية الغذاء، إذ هناك حشرات رميّة وحشرات نباتية التغذية وحشرات طفيلية ومفترسة، وأنواع أخرى تتغذى بالحيوانات، وغيرها.
2ـ العوامل المرتبطة بالكثافة العددية: يتأثر عدد الأعداء الحيوية من مفترسات وطفيليات بالكثافة العددية للعائل، إذ إن الأعداء الحيوية تنظم عدد العائل، كما يؤثر العائل في كثافة أعدائه.
الطرائق المستخدمة في برامج المكافحة الحيوية
|
||
|
حشرة فرس النبي الكاملة |
تعتمد برامج المكافحة الحيوية على ثلاثة طرائق رئيسية كما يأتي:
1ـ استيراد الأعداء الحيوية: وتستخدم هذه العملية في مكافحة الآفات الدخيلة exotic pests والتي ليس لها أعداء حيوية إلا في بيئتها الأصلية؛ وتحتاج إلى دراسات بيئية وبيولوجية للآفة وللعدو الحيوي.
2ـ توفير الحماية للأعداء الحيوية: تشمل عملية حفظ الأعداء الحيوية وصيانتها معالجة الشروط البيئية والعوامل الخارجية غير الملائمة، ومنها الحماية من مبيدات الحشرات والاهتمام باستخدام المبيدات القليلة السميّة للأعداء الطبيعية، المبيدات الانتقائية وتوفير الغذاء اللازم للعذارى؛ وكذلك عدم إجراء العمليات الزراعية الخاطئة، وتنويع زراعة المحاصيل؛ مما يؤدي إلى توفير العوائل البديلة للأعداء الحيوية.
ـ تربية الأعداء الحيوية وإكثارها: تنحصر هذه العملية في الأنواع التي تثبت كفايتها في تنظيم الكثافة العددية للآفة، وذلك بإجراء دراسات مخبرية وحقلية تشمل الإنتاج الكمي السنوي أو مستعمرات مرحلية أو برامج التحسين الوراثي للأعداء الحيوية المحلية والمستوردة.
متطلبات نجاح المكافحة الحيوية
هناك متطلبات كثيرة لنجاح عمليات المكافحة الحيوية وزيادة كفاية الأعداء الحيوية، من أهمها ما يأتي:
1ـ القدرة على البحثsearching ability : تزداد كفاية العدو الحيوي بزيادة قدرته على البحث عن العائل.
2ـ درجة التخصص: تستجيب الأعداء الحيوية المتخصصة بعائل واحد monophagous إلى تغييرات في الكثافة العددية للآفة بدقة تفوق قدرة الأعداء الحيوية المتعددة العوائل polyphagous.
3ـ مُعدّل الزيادة الكامنة potential increase للخصوبة: وتعد الخصوبة العالية وقصر مدة التطور وكثرة عدد الأجيال عناصر مهمة في تقدير كثافة العدو الحيوي.
4ـ التأقلم مع المناخ: إذ يحد عدم تحمل العدو الحيوي الشروط المناخية غير الملائمة من كفايته في منع انتشار الآفة.
5 ـ سهولة تربية العدو الحيوي مخبرياً سواء على عوائله الأساسية أم على عوائل بديلة أم في أوساط صنعية للتحكم في وقت بداية المكافحة.
6ـ توافق دورات الحياة: يواجه كثير من أنواع الطفيليات صعوبات عدم توافر العائل أو أحد أطواره؛ ويؤدي ذلك إلى موت الطفيل أو مغادرة المنطقة، فالتوافق في دورات الحياة شرط أساسي لنجاح الأعداء الحيوية.
7 ـ يشترط في العدو الحيوي ألا يتطفل أو يفترس حشرات نافعة. وألا توجد أعداء حيوية له في بيئته.
استخدام الأعداء الحيوية من الأنواع آكلة الحشرات entomophagous insects
تؤدي الحشرات المتطفلة والمفترسة دوراً أساسياً في المكافحة الحيوية للآفات الضارة وتتبع أنواعها رتباً مختلفة، ويستخدم المستَوطِن منها أو المُستورَد. تضم الأعداء الحيوية مجموعتين رئيسيتين هما:
ـ الحشرات المتطفلة parasitism insects: وتتبع أساساً رتبتي غشائية الأجنحة Hymenoptera وثنائية الأجنحة Diptera. تهاجم جميع أطوار الحشرات ويعيش طفيلها إما على جسم العائل أو في داخله، ويحصل على غذائه منه معتمداً عليه في معيشته، وتنتهي هذه العلاقة بموت العائل. ويحتاج الطفيل إلى عائل واحد لإكمال دورة حياته. تتعدد أشكال التطفل فمنها الطفيليات الأولية والطفيليات الثانوية والتطفل المتعدد والتطفل المركب والذاتي والسارق وغيرها.
وبحسب مكان وضع البيض فهناك التطفل الخارجي أو الداخلي. وبحسب طور العائل فهناك طفيليات البيوض أو اليرقات أو الحوريات، وطفيليات العذارى أو البالغات. وتكون الحشرة الكاملة حرة المعيشة، وُيعد الطور المتطفل طوراً يرقياً.
ـ المفترسات predators: تتبع الحشرات المفترسة رتباً عديدة وتختلف فيما بينها بطريقة الافتراس والفريسة (العائل)، إذ توجد أنواع متعددة التغذية وأخرى متخصصة على نوع واحد من الفريسة، ويتغذى المفترس على عدد من أفراد العائل لإكمال دورة حياته. وتكون المفترسات أكبر حجماً من الفريسة وتنتهي العلاقة بينهما بانتهاء افتراسه للعائل.
من الأمثلة على الحشرات المفترسة: الخنافس الجوَّالة، خنافس «أبو العيد» (الشكل1)، يرقات أسد المن، يرقات ذبابة السرفيد، تتغذى في أطوارها الكاملة برحيق الأزهار على خلاف يرقاتها.
تطبيقات المكافحة الحيوية في المجالات الزراعية
يتطلب تطبيق برامج المكافحة الحيوية للآفات الضارة، ولا سيما عند التحضير والتخطيط لاستيراد الأعداء الطبيعية، الاستعانة بمساعدات ومقترحات كثير من الفنيين المختصين في هذا المجال ومنها:
1ـ التعريف الدقيق للآفة (تصنيفياً) تحديد البلد الذي نشأت فيه. ويستعان بالمختصين وبالعينات المحفوظة في المتاحف الطبيعية وبالتوزيع الجغرافي للأنواع القريبة الصلة بها أو لعوائلها النباتية.
2ـ توقيت برنامج استكشاف الأعداء الطبيعية للآفة وتنظيمه: بعد تحديد منطقة البحث لابد من تحديد أفضل وقت للبحث عن الأعداء الطبيعية والأخذ بالحسبان التوافق بين عمليات الجمع وبرامج توطيد هذه الأعداء في البلد المستورد.
3ـ اختيار الأشخاص المختصين الذين يقومون بالبحث عن الأعداء الطبيعية وتدريبهم جيداً.
4ـ التحضير لنقل الأعداء الطبيعية المدخلة وتلقيها: وذلك بالاتصال بالدوائر الزراعية المختصة وإدارة الجمارك، وتهيئة طرائق نقل الإرسالية، وعدم تعرضها للحرارة والجفاف والاتصال بالأشخاص الذين سيتلقون الإرسالية لتوفير حمايتها وحفظها.
يجب أخذ الاحتياطات عند جمع الأعداء الطبيعية ونقلها بالطرائق العلمية الحديثة المعروفة للحفاظ عليها حية وتوفير التغذية لها في أثناء الشحن حتى وصولها إلى البلد المستورد، وأخذ الاحتياطات من إدخال كائنات حية ضارة مع العدو الحيوي والتأكد من خلو حالات فرط التطفل.
ومن الأمثلة ما يأتي: وطّنت في فرنسا ثلاثة أنواع من الطفيليات لمكافحة حشرة ذبابة الزيتون Bactrocera oleae، فقد استورد مارشال Marchal في فرنسا العدو الحيوي Opius concolor بعد اكتشافه في تونس. وقد وجد الباحثون صعوبة في تربية الطفيل، إلى أن تمكن ديلانو Delanoue من تربيته مخبرياً على ذبابة البحر الأبيض المتوسط، وكذلك استخدم الطفيل الخارجي Eupelmus urozonus والطفيل Erytoma martellii بعد تربيتها على عوائل بديلة مخبرياً وأمكن بذلك مكافحة هذه الذبابة في أماكن انتشارها.
ـ استخدم الكالسيد Encarsia formosa المستورد بنجاح في بريطانيا لمكافحة الأطوار غير الكاملة لحشرات الذباب الأبيض Trialeurodes vaporariorum على الخضراوات في الدفيئات، كما أدخل إلى كندا وجنوبي أستراليا وإلى فرنسا والولايات المتحدة.
ـ استخدم الجنس Aphytis لمكافحة حشرات الحمضيات بنجاح، فقد استورد الطفيليان A. lingnanensis و A.melinus إلى المغرب العربي، بالتعاون مع مركز المكافحة الحيوية في مدينة آنيتيس في فرنسا، من مناطق الشرق الأوسط. ورُبيّ الطفيليان مخبرياً، ثم أُطلقا في الطبيعة لمكافحة حشرة كاليفورنيا الحمراء Aonidiella auranti وباستعمالهما أمكن إيقاف المكافحة الكيمياوية لهذه الحشرة.
ـ استخدم الطفيل Cales noaki لمكافحة الذبابة البيضاء الصوفية Aleurothrixus floccosus: فقد أدخل إلى فرنسا ونشر في الطبيعة بعد تربيته مخبرياً في منطقة الألب المارتيك. وكذلك أدخل إلى سورية لمكافحة الحشرة نفسها، وتمت تربيته مخبرياً في مكتب أبحاث الحمضيات في طرطوس، وأسهم استخدامه في إيقاف المكافحة الكيمياوية والحدّ من انتشار الذبابة وتكاثرها.
ـ كما أمكن إنتاج الآلاف من خنافس أبو العيد Cryptolaemus montrouzieri والطفيليات لمكافحة بق الحمضيات Planoccocus citri وحافرة الأنفاق في أوراق الحمضيات، مما أسهم ومنذ سنيين عدة في استبعاد المكافحة الكيمياوية لحشرات الحمضيات.
ـ وبدأ برنامج المكافحة الحيوية في سورية لحشرات القطن عام 1994، واستخدمت الطفيليات البيضية من نوع تريكوغراما ولاسيما Trichogramma principium ، وقد تمت تربية الطفيليات وإكثارها مخبرياً على بيوض فراشة طحين حوض البحر المتوسط، ونُفِّذت تجارب عدة لمكافحة ديدان جوز القطن ولاسيما حشرة Helicoverpa armigera التي بلغت مساحة انتشارها نحو 94 هكتاراً في عام 1997 و 1600 هكتار في عام 2002.
الآفاق المستقبلية
تشمل هذه الآفاق استخدام العوامل الممرضة في مجال المكافحة الحيوية مثل البكتريا والفيروسات والفطور ووحيدات الخلية والديدان الثعبانية التي تصيب الآفات الضارة؛ فتوقف نشاطها وتحد من إنتشارها أو تقتلها؛ فتنخفض بذلك أضرارها جزئياً أو كلياً. يوجد بعضها في الطبيعة في حدود معينة وبحالة من الاتزان الحيوي مع الآفة العائل بحيث لو توافرت الظروف المناسبة لتكاثر هذا المسبب المرضي ووصل إلى حد الوباء المدمِّر للآفة في فترة وجيزة.
كما يهتم اليوم المختصون بدراسة أمراض اللافقاريات Pathology of Invertebrata، في مجال المكافحة الحيوية.
وتتجه البحوث نحو اكتشاف العوامل الممرضة في المخبر والعمل على إنتاجها ونشرها في الحقل بعد دراسة تأثيراتها الإيجابية والسلبية في الإنسان والبيئة.
نوال كعكة
الموضوعات ذات الصلة: |
أمراض النباتات ـ الحشرات ـ الديدان في الزراعة والبيطرة ـ الزراعات (آفات ـ) ـ الفرمونات ـ المبيدات الزراعية ـ المكافحة المتكاملة.
مراجع للاستزادة: |
ـ محمد السعيد صالح الزميتي، تطبيقات المكافحة المتكاملة (دار الفجر للنشر والتوزيع، القاهرة 1997).
ـ محمد فؤاد توفيق، المكافحة البيولوجية للآفات الزراعية (المكتبة الأكاديمية، مصر 1997).
ـ نوال كعكة، المكافحة الحيوية (منشورات جامعة حلب1986).
- W. S. ROMOSER & J.G. STOFFOLANO, The Science of Entomology,4th edition (William C. Brown Pub. 1997).
- G. S. DHALIWAL & G. W. CUPERUS, Integrated Pest Management: Potential Constraints and Challenges (CABI Publishing 2004).
- H.M.T. TOKKANEN & J. M. LYNCH, Biological Control: Benefits and Risks (Cambridge University Press 2003)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق